• 2022-05-19

أمّة لا تعرف اليأس ولا الانكسار

يمرّ عالمنا الإسلاميّ في هذه الحقبة من الزّمن بحوادث تقطّعت لها نياط القلوب، واستنزفت طاقات الأمّة، وتسبّبت في تعكير مشاعر المسلمين وأفكارهم، حتّى أصيب بعضهم بعقدة النّقص والدّونيّة واضطراب الشّخصيّة، وآخرون غلب عليهم الإحساس بالخيبة والإحباط وفقدان الأمل، واعتقدوا ألاّ مستقبل للإسلام وأمّته في هذا العصر.
ولاشكّ أنّ هذا الشّعور مبعثه قلّة معرفة بطبيعة الإسلام وبتاريخه، فكلّ من درس هذا الدّين دراسة مبصرة أيقن بأنّه قادر بإذن الله على اجتياز هذه المرحلة وما فيها من عقبات، فقد مرّت بالمسلمين عبر تاريخهم الطّويل محن وأخطار مشابهة لما هي عليه الآن بل أشدّ. فأيّام المرتدّين والمتنبِّئين، وأيّام المغول والصّليبيّين، والنّكبة الكبرى في الأندلس، وإسقاط دولة الخلافة عام 1924، وما تعرّضت له الأقلّيّات الإسلاميّة في أطراف العالم الإسلاميّ من إبادة واضطهاد، وأيّام الغزو الاستعماريّ الّذي اجتاح بجيوشه وأفكاره بلاد المسلمين، كلّها فترات هزّت الضّمير الإسلاميّ وقاسى فيها المسلمون ما قاسوا، حتّى ظنّ بعضهم أنّ الإسلام لن ترفع له راية، ولن تقوم له قائمة.
ولكنّ الإسلام العظيم بقوّته الذّاتيّة الّتي أودعها الله تعالى فيه، تغلّب على هذه المحن كلّها، وخرج منها وهو أشدّ صلابة وأقوى ما يكون. هذه القوّة الذّاتيّة تكمن فيه كمون النّار في الكبريت، ولا تظهر إلاّ حين تبلغ القلوب الحناجر وتحدق بها الأخطار من كلّ جانب، فتشتعل وتقوى من جديد، وتصنع العجائب في فترات زمنيّة قياسيّة، تنتقل فيها الأمّة من حال إلى حال، وتتمكّن من استعادة عافيتها وشقّ طريقها والمضيّ قُدُمًا، لأنّها آخر الأمم، ودينها آخر الأديان، فلابدّ له من أن يبقى وأن يستمرّ، والله متكفّل بنصره "لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" الصّفّ: 9.
وقد وقعت في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقائع مؤلمة، اضطرّت بعض المسلمين المستضعفين بمكّة إلى أن يقولوا ما قاله الأوّلون: متى نصر الله؟ ويأتي خبّاب بن الأرت إلى النّبيّ يشكو إليه ما أصابه من العذاب وما تركه على جسمه من التّشوّهات فيقول له عليه الصّلاة والسّلام: (قد كان مَنْ قَبلَكم يؤخذ الرّجلُ فيُحفرُ له في الأرض فيُجعلُ فيها، فيُجاءُ بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعلُ نِصفين، ويُمشّطُ بأمشاط الحديد ما دُون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، واللهِ ليُتِمَّنَّ هذا الأمر، حتّى يسيرَ الرّاكبُ مِنْ صنعاءَ إلى حَضرَمَوْت، لا يخافُ إلاّ اللهَ، والذِّئبَ على غنمه، ولكنّكم تستعجلون) رواه البخاري: 6943.
هذه الظّروف الصّعبة والأحوال الحرجة الّتي مرّت بالمسلمين الأوائل، حدث مثلها مع الأنبياء وأتباعهم، وبلغت فيها الشّدّة منتهاها كما حكى الله تعالى: "حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي يئسوا أن يستجيب لهم قومهم "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" أي ظنّوا أنّ قومهم كذّبوهم، أو ظنّ الكفّار أنّ الرّسل قد كُذِّبوا ولن ينصرهم الله، وفي هذه اللّحظة الّتي تشتدّ فيها المحنة "جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" يوسف: 110.
والواحد منّا قد يضعُف لأنّه إنسان، وقد يحزن ويتألّم لحال المسلمين، ولكن لا ينبغي أن يسيطر اليأس على قلبه وأن يفقد الأمل، وقد نصح يعقوب عليه السّلام بنيه: "وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" يوسف: 87. فلا ييأس من رحمة الله ومن نصره إلاّ الكافرون المنكرون لقدرته سبحانه، أمّا القلب الواثق بالله، العامر بالإيمان، المتّصل بالرّحمن، فلا يقنط ولا ييأس، ولكن يظلّ متفائلًا يستبشر بغد مشرق ومستقبل أفضل، وإنْ كان المشهد من حوله يوحي بعكس ذلك.
إنّ الأوضاع الكئيبة الّتي يعيشها المسلمون اليوم مهما طالت هي في عمر الزّمن أوضاع طارئة، تأتي ثمّ تنجلي، وتمكث فترة ثمّ تزول، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، ولن يمكّن الله عُبَّاد الشّيطان ولا مَنْ بدّل دين الأنبياء، من التّسلّط والاستعلاء والاستمرار إلى الأبد. فلابدّ من عودة الأمور إلى نصابها "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" البقرة: 251، أي لولا أن يدفع الله شرّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة، لأنّ الشّرّ إنْ غلَب كان الخراب والدّمار.
إنّ السّنين المقبلة لابدّ أن تتمخّض بإذن الله عن جيل النّصر المنشود، وعن قادة ربّانيّين يصنعهم القَدَرُ الأعلى في كلّ مرحلة، ولا ينبغي أن نستبعد ذلك، فمن كان يظنّ بعدما فعل التّتار فعلتهم أن يخرج لهم ذلك الفتى الأفغانيّ المشرَّد سيف الدّين قُطُز، ويصبح سلطانًا على مصر، ويهزمهم شرّ هزيمة؟! ومن كان يظنّ أنّ صلاح الدّين ذلك الفتى الكرديّ سيغدو ليثًا يتوارى منه الصّليبيّون، وينصره الله على ملوك أوروبّا وهم مجتمعون، ويستعيد القدس منهم بعد أن ظلّت في قبضتهم تسعين سنة، وينجاب عار الهزيمة على يديه؟! ومن كان يتصوّر أنّ عبدالرّحمن بن معاوية المعروف بعبدالرّحمن الدّاخل والملقّب بصقر قريش يتمكّن من الفرار إلى الأندلس بعدما نجا من المجزرة الّتي حصدت الأمويّين في المشرق، ليقيم لهم في أوروبّا دولة ثانية، ويشيّد للمسلمين هناك حضارة شامخة، استمرّت ثمانية قرون؟!
فمهما أحاطت بنا الخطوب، ومهما اشتدّت قساوتها، نظلّ نترقّب النّصر والبشائر والفرج من الله. ومرحلة التّرقّب هذه ليست مرحلة قعود وبكاء، بل هي مرحلة إعداد وبناء، وصبر وصمود، وتخطيط وترشيد، يُصلح فيها كلٌّ منّا نفسه وأهله وأولاده، ويحاول أن يؤدّي واجباته، وينشر الخير في مجتمعه، لتتهيّأ الأوضاع والنّفوس، ويحدث التّغيير، ويتحقّق النّصر بإذن الله. فالّذين جاهدوا النّفس والهوى وأعداء الدّين لن يتركهم الله وحدهم، ولن يتخلّى الله عنهم، سينصرهم في الدّنيا، ويجزيهم الجزاء الأوفى في الآخرة: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" العنكبوت: 69.

آخر أخبار الشيخ د.خالد السعد

  • قاعدة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب) ونماذج من تطبيقاتها في الدّعوة والعمل الإسلامي

    2022-12-23

    هذه إحدى القواعد الفقهيّة الّتي يكثر تداولها في كتب الفقه ومصادره، ومفادها أنّ كلّ وسيلة لا يُتوصّل إلى فِعْل الواجب إلاّ بها فهي واجبة، لأنّ إيجاد الفعل المأمور به إذا توقّف على إيجاد شيء آخر كان هذا الشّيء واجباً، وكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة فكذل...

  • التّعاهد على الطّاعات والقربات

    2021-10-16

    لم يخل جيل من أجيال هذه الأمّة المحمّديّة المباركة – الّتي أكرمنا الله تعالى بالانتساب إليها – من أصحاب المواقف الإيمانيّة، ومن أهل الصّلاح والدّعوة إلى المعروف، والإخلاص والحماسة للدّين. وفي هذا الجيل الّذي نحن فيه – حيث الفتن الّتي يرقّق بعضها بع...

  • تراتيل تفنّد الأكذوبة الكبرى

    2021-08-17

    لا يرتاب دارس للإسلام أو مطّلع على مصادره، في أنّ القول بالدّين الإبراهيميّ العالميّ، الّذي يجمع الإسلام مع النّصرانيّة واليهوديّة تحت مظلّة واحدة، هو من أكذب الأقوال الّتي ظهرت في عصرنا ومن أضلّها. إذ كيف يمكن الجمع بين من يرغب عن ملّة إب...

  • ماذا يعني ارتداد الفنّانة الخليجيّة وتهوّدها؟

    2021-05-16

    أفلح الغزو الثّقافيّ في تلويث أفكار وعقول فئة من أبناء المسلمين، ولشدّة تأثيره صار البعض منهم ينقلب بين عشيّة وضحاها من الإيمان إلى الكفر، وهو ما حذّرنا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرّ...

  • كتاب (فقه السّنّة) وأثره في تفقيه شباب الصّحوة المعاصرة

    2020-02-01

    (هذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلاميّ مقرونة بأدلّتها من صريح الكتاب وصحيح السّنّة، وممّا أجمعت عليه الأمّة، وقد عُرضت في يسر وسهولة، وبسط واستيعاب لكثير ممّا يحتاج إليه المسلم، مع تجنّب ذكر الخلاف إلاّ إذا وُجد ما يسوّغ ذكره فيشير إليه، والكتا...